خاطرة عن مصيبة الموت إذا ألمّت

Posted by o.atoui on August 15, 2023

تعزّى أبو بكر رضي الله عنه يوما حين أصابته الحمّى ببيت صار مثلا

كل امرئ مصبّح في أهله *** والموت أدنى من شراك نعله

ومعناه أن كل إنسان يصبّح في أهله ويمسّى بدوام العافية والخير وسرعان ما يُفجعون بموت كان أقرب إليه من سير النّعل الذي يثبّته في القدم، كل ذلك من شدة مباغتة الموت لمن أمل الحياة فيهم يُذهل عن خواطر التفكير في موتهم ممن صحّت أبدانهم وكثر مالهم وتحصنوا بحسن التدبير ودقيق التفكير مع مكر وحيلة يُظنّ منها دفع كل كمين وخطر داهم ! وقد رُوي أنه لما أخبر ابن عباس رضي الله عنه عن خبر الهدهد وكشفه الماء لجيش سليمان عليه السلام استوقفه نافع ابن الأزرق أن كيف ذلك والهدهد ينصب له الفخ من تحت التراب فيجيء بعنقه ؟! فأجابه إنما ينفع الحذر ما لم يأت القدر فإذا جاء القدر حال دون البصر

والناظر في قصة هذه الغطاسة يرى فيها العبرة تتكرر مع مثيلات قد خلت فهل من معتبر؟ ما قدّره الله على البشر وغيّبه عن الإطلاع لا يمكن أن تتقيه أسباب دفع الشر ولا أسباب استجلاب الخير إلا بإذن الله والكفار منهمكون في تحرّي الأسباب التي سرعان ما تثغرها المصائب كل مرّة ولا يكاد ينتبه منتبه منهم فهم في حلقة تدور بهم لا فكاك منها وفوق ذلك عنت ومشقة تقض العيش وتفسد سكينة القلب وتؤرق النفس. ونقيضه الإيمان والذي منه الإيمان بالقضاء والقدر والتسليم عند المصائب فهو المخرج من تلك الحلقة التي لا تنتهي والمورث في النفس راحة وفي القلب سعة لا يلقاها إلى المؤمن حقا فهو الحاث له على السعي دون الاخلال والأخذ بالأسباب دون عنت النفس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له". سوى ذلك، فدون المؤمن السامع لقصة مجموعة هم من أغنى أهل الأرض اشتروا الموت بأجود مال وأغلى ثمن ودفنوا أنفسهم في بحر سحيق هو أحد الرجلين في التفاعل معها إما رجل لوام للأسباب الموقعة فهو في ضنك السعيّ في رأب ثغراتها وسرعان ما يُفجعه وهن الأسباب أو رجل وقع في الاحجام المرضيّ عن كل طريق محفوف بأقل الأخطار فتعطلت كل مصالحه وقعد عن منافع تنازله عنها لا تدفع عنه البلاء البتة وهيهات أن يهنأ أحدهما بشيء.

فهذه الواقعة عبرة تولّدت عنها خاطرة وذكرت معها قول الله عز وجل لنبيه: "قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ"

وذكرت معها أيضا قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ من المؤمنِ الضعيفِ، وفي كلٍ خيرٌ احرصْ على ما ينفعُك واستعنْ باللهِ ولا تعجِزنَّ ، وإن أصابَك شيءٌ فلا تقلْ : لو أني فعلتُ لكانَ كذا وكذا ، ولكن قلْ قدَّرَ اللهُ وما شاءَ فعلَ فإن لو تفتحُ عملَ الشيطانِ" وما فيه من التوازن بين الأخذ بالأسباب واستفراغ الجهد والتسليم والرضا بوقوع الأمر على أي حال كانت ومعالجة السيء منها بالصبر والأخذ بالعبر دون الرجوع باللوم إلى ما انقضى ولا حيلة له فيه وهما مانعان من شطط التعلق بالأسباب و شطط العزوف عن الانبعاث للأخذ بها وكلاهما مهلك لصاحبه.

وتخيلت معها شدّة حسرة من جعل الدنيا هي غايته وهمته حين يسمع بخبرهم فذكرت قول الله عز وجلّ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ"

وأختم بدعاء جامع كان رسول الله صلى عليه وسلّم يدعوا به أخرجه النسائي في سننه عن قيس بن عباد قال "صلَّى عمَّارُ بنُ ياسرٍ بالقومِ صلاةً أخفَّها ، فَكأنَّهم أنْكروها ! فقالَ : ألم أُتمَّ الرُّكوعَ والسُّجودَ ؟ قالوا : بلى ، قالَ أمَّا أنِّي دعوتُ فيها بدعاءٍ كانَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ يدعو بِهِ اللَّهمَّ بعِلمِكَ الغيبَ وقدرتِكَ على الخلقِ أحيني ما علمتَ الحياةَ خيرًا لي وتوفَّني إذا علمتَ الوفاةَ خيرًا لي وأسألُكَ خشيتَكَ في الغيبِ والشَّهادةِ وَكلمةَ الإخلاصِ في الرِّضا والغضبِ وأسألُكَ نعيمًا لاَ ينفدُ وقرَّةَ عينٍ لاَ تنقطعُ وأسألُكَ الرِّضاءَ بالقضاءِ وبردَ العيشِ بعدَ الموتِ ولذَّةَ النَّظرِ إلى وجْهِكَ والشَّوقَ إلى لقائِكَ وأعوذُ بِكَ من ضرَّاءٍ مُضرَّةٍ وفتنةٍ مضلَّةٍ اللَّهمَّ زيِّنَّا بزينةِ الإيمانِ واجعَلنا هداةً مُهتدين"